مقالات الرأي
أخر الأخبار

#منبر_الكلمة ✍️ جلال الجاك أدول تقدُّم والبعوضة القاتلة

#منبر_الكلمة
✍️ جلال الجاك أدول

تقدُّم والبعوضة القاتلة

في عالم الأوبئة، تحمل أنثى بعوضة الأنوفِلس سمعةً خطيرة، فهي الناقل الرئيسي لمرض الملاريا، ذلك الداء الذي يفتك بالمجتمعات ببطء، دون ضجيج، لكنه يستنزف الأرواح والطاقة الإنتاجية للأفراد. تعمل هذه البعوضة في صمت، لا يشعر بها الضحية إلا بعد أن تترك أثرها، فتغرس المرض في الجسد دون أن تعلن عن نفسها. والمفارقة أن بعض الظواهر السياسية تسلك الطريق ذاته، فتتغلغل دون أن تُحدث جلبة، لكنها تُسهم في إطالة عمر الأزمة وإعادة إنتاجها بوسائل أكثر تعقيدًا. ولعل تنسيقية تقدُّم مثالٌ حيٌّ على ذلك، إذ تتخذ لنفسها مظهرًا جذابًا، لكنها في جوهرها ليست سوى وسيطٍ يُعيد تدوير العلل السياسية القديمة في قوالب جديدة.

تقدُّم، مثل أنثى الأنوفِلس، لا تصنع الأزمات لكنها تنقلها، تعيد توزيعها في بيئات مختلفة، وتمنحها قدرةً أكبر على التكيّف والاستمرار. ترفع التنسيقية شعارات التغيير والتحرر، لكنها، في الممارسة الفعلية، تُعيد إنتاج المنظومات التي تدّعي محاربتها، فتُسهم في تثبيت أقدام القوى المستفيدة من حالة اللايقين السياسي. كما أن البعوضة تتغذى على الدماء الحيّة، فإن تقدُّم تتغذى على الحماسة السياسية للشباب، تمتص طاقاتهم باسم النضال، لكنها لا تترك وراءها سوى جيلٍ مُنهَك، يكتشف بعد فوات الأوان أنه كان جزءًا من حلقة مفرغة لا تُفضي إلى أي تغيير حقيقي.

الملاريا ليست مرضًا يُقتل المصاب به على الفور، بل يُنهِك الجسد تدريجيًا حتى يصبح غير قادر على المقاومة. وهذا تمامًا ما تفعله تقدُّم، فهي لا تُجهز على الآمال السياسية دفعةً واحدة، بل تُضعفها على مراحل، تُدخلها في صراعات جانبية، تستنزفها بالمناورات والوعود الزائفة، حتى تتحول إلى حركة فاقدة لأي تأثير حقيقي، سوى أنها تملأ الفراغ السياسي بالكلام دون الفعل. وكما أن محاربة الملاريا لا تُختزل في قتل البعوض، بل تتطلب تجفيف المستنقعات التي يتكاثر فيها، فإن التصدي لأمثال تقدُّم لا يكون بمجرد كشف حقيقتها، بل بتفكيك البيئة السياسية التي تجعلها ممكنة، تلك البيئة التي تُعيد تدوير الوجوه والخطابات، لكنها لا تسمح بولادة مشروع سياسي حقيقي.

ما يجعل تقدُّم أكثر خطرًا هو قدرتها على التكيّف مع الأوضاع المتغيرة، فهي ليست جزءًا صريحًا من السلطة، لكنها ليست معارضة حقيقية أيضًا، بل تتغذى على التناقضات، تُراوغ بين المعسكرات المختلفة، وتبحث لنفسها عن موطئ قدم في كل مرحلة. وكما أن البعوضة لا تعيش دون بيئة حاضنة، فإن تقدُّم لا يمكنها البقاء دون حالة الغموض والارتباك السياسي، فهي تحتاج إلى صراعات غير محسومة، إلى مشهدٍ ضبابي يسمح لها بإعادة تعريف نفسها في كل مرة.

إن أخطر ما في تقدُّم أنها تُغري أولئك الذين يبحثون عن بديل، لكنها في النهاية لا تقدم سوى نسخة جديدة من القديم، بحلة مختلفة. وبينما يواصل الشباب الانخراط فيها، على أمل إحداث فرق، يجدون أنفسهم جزءًا من آلة تُعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلها. وبمرور الوقت، يصبح التغيير الحقيقي أكثر صعوبة، لأن تقدُّم لا تكتفي بامتصاص الطاقات، بل تُسهم في إعادة تأهيل الخطاب السياسي ليتكيف مع الواقع الفاسد بدلًا من تحديه.

ولأن الحل مع الملاريا يبدأ بتجفيف المستنقعات، فإن الحل مع تقدُّم يبدأ بتفكيك المناخ السياسي الذي يسمح لها بالنمو. لا يكفي كشف تناقضاتها أو انتقاد خطابها، بل يجب خلق بدائل حقيقية تجعل من وجودها غير ضروري. فكما أن القضاء على البعوض ليس هدفًا بحد ذاته، بل الهدف هو القضاء على المرض، فإن التصدي لـ تقدُّم لا ينبغي أن يكون مجرد معركة ضد مجموعة سياسية بعينها، بل معركة ضد كل ما يجعل من أمثالها ممكنًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى