لا للحرب …. بحق حسام الدين محجوب على

لا للحرب …. بحق
حسام الدين محجوب على
الحرب قضت على ارواح و أعراض و ممتلكات و بنية تحتية و من المعيب ألا نقضى على أسبابها ، من جهل و عصبية و افكار بالية أقعدت البلاد عهود . لن ننهض بالبلاد ، بل و لن نوقف الحرب و ستصدق نبؤة من لا يريدون بهذه البلاد خيراً و جره لحرب داخلية تتبع حرب الارتزاق و لكنها ستكون ارتزاق من نوع آخر حمانا الله منها و ويلاتها إذا لم نغير من انفسنا .
لم تبرد دماء شهداء الجزيرة بعد حتى ابتدر المنافقون فرية الكنابى و باتوا ينفخوا فى رمادها بحثاً عن جمرة تلهب ارض الجزيرة و تتحرى بركان يحرق باطنها لدهور قادمة .
لمن لا يعلم ماهية الكنابى و بعض المسميات التى جرى تداولها فى الأيام الفائتة و لكن يعلمها يقيناً كل مواطنى الجزيرة ، فان الكنابى ليست مسمى لمنطقة جغرافية مملوكة لسكانها من الأصل . الكمبو مفرد كنابى كما درج على جمعها ، هو مجموعة من المساكن الصغيرة المتفرقة فى شكل غرف او “قطاطى ” كما درج على تسميتها، شيدت بعد قيام مشروع الجزيرة عام ١٩٢٥ بها بعض الغرف لإسكان العمال الموسميين القادمون من خارج الجزيرة فى فترات الزراعة و الحصاد و كانت تفرغ من السكان عند انتهاء الموسم . غالبيتها أراضى تحت إشراف إدارة مشروع الجزيرة و بعضها الآخر مملوك لافراد او لأسرة من المزارعين يتشاركون الحواشات لإسكان عمالهم فى المواسم الزراعية و لذا تجد بعضها يسمى بأسماء أفراد . بعض العمال سكنوا فى هذه الكنابى خارج المواسم و كانوا يعملون فى أعمال أخرى خارج الموسم انتظاراً للموسم القادم بدل رحيلهم و عودتهم مرة أخرى و بعد أعوام طوال استوطنوا فى هذه الكنابى . بالتأكيد الكنابى تكون حول او بقرب قرى او حلال و هى جمع حِلة كما تسمى فى الجزيرة . بعد طول فترة بقاء فى هذه الكنابى استقر كثر من أهلها فى القرى التى تجاورهم و صاروا مواطنون كمعظم أهل الجزيرة التى هى بوتقة تجمع كل القبائل من مختلف ارجاء السودان لعدم وجود الخدمات الضرورية فى الكنابى التى لم يكن فيها بنية أساسية لها صفة الديمومة كالكهرباء او الصرف الصحى و غيره من متطلبات الاستقرار . لذا ففرية ان سكان الكنابى كانوا مواطنين فى الجزيرة قبل المشروع غير صحيحة لعدم وجود الكنابى اساساً قبل قيام المشروع .
فى الربع الأخير من القرن الماضى و كنتاج طبيعى للتواجد المستمر فيها تكاثر سكانها و صارت مساكن دائمة لكثير منهم . رحل بعضهم إلى المدن الكبرى فى الجزيرة و أقاموا فيها حالهم حال غيرهم من سكان هذه المدن و أنشاء بعضهم مساكن دائمة عشوائية فى تلك المدن مثل توتو ماتا فى مدنى و كحال المناطق العشوائية فى المدن تسببت فى بعض المشاكل البئية فى هذه المنطقة أدت لتذمر السكان فيها و من حولها مما ادى لتذمر الجميع فى هذه المجتمعات و صارت هاجساً امنياً و بيئياً للسلطات فى تلك الفترة فعمدت السلطات فى ذاك الزمن لحل جذرى لها بإنشاء خطة إسكانيّة بكامل بنيتها التحتية و ترحيل اهالى توتا ماتا لتلك المنطقة فى مدنى و التى سميت لاحقاً ” حِلة محجوب” تيمناً ” بمحجوب على” آخر نائب محافظ لمديرية النيل الأزرق حينها و اول محافظ لمديرية الجزيرة بعد الحكم الاقليمى و قيام الإقليم الأوسط نهاية سبعينيات القرن الماضى و ألذى اشرف على إعطاء اول شهادة بحث لارض لسكان هذه المنطقة و اذكر حينها انه طالبهم بضرورة الحفاظ عليها و تنميتها و قد فعلوا .
لاحقاً ، فى تسعينيات القرن الماضى نزعت الحكومة حينها ارض زراعية غرب شارع الخرطوم – مدنى متاخمة ” لعمارة ابيد ” و امتداد ” لقرية العمارة طه ” من مالكها “محمد عبدالرحمن محمد” و قسمتها كمخطط إسكاني لسكان كمبو النديانة و ألذى كان يتبع لإدارة مشروع الجزيرة و قد استردوها لعدم أحقية الحكومة فى نزعها و لكن بحكم المسؤولية المجتمعية و بطلب من الحكومة بعد تراجعهم عن النزع قبل ورثة ” المرحوم محمد عبدالرحمن محمد ” و بالتماس شخصى من ابن عمهم “محجوب على ” بالتنازل عن جزء من الأرض لإقامة المخطط الاسكانى لمقيمى كمبو النديانة و تم إنشاء ” امتداد قرية العمارة طه ” فى موقع ممتاز غرب شارع الخرطوم – مدنى الولائي و يرى العابرون ” امتداد العمارة طه ” جنوب الحصاحيصا و شمال غرب ” قرية العيكورة ” مساكن متعددة الطوابق و فى موقع ممتاز .
ذاك الرجل ، يرحمه الله ، لم يكن عصبياً و لا تمييزياً و لا جهوياً ، حاله كحالنا و حال كل اهلنا الذين نعلم ، بل وضع اساساً لحل إشكال كأنه استشرف المستقبل ألذى نعيشه الآن و نبغضه . فعل ما فعل كمسؤول و سياسى بسلطة الدولة و مال الدولة ، كما فعل مثيله كزعيم مجتمعى و لكن بسلطته المجتمعية و ماله و مال أهله دون اجبار من الدولة .
خلال مفاوضات جوبا بين حكومة الثورة و الحركات المسلحة ، استحدثوا ما سمى حينها بمؤتمر الكنابى و تم إلحاقه بما سمى حينها بالحقوق التاريخية للهامش فى الوسط ، وضعت بنود تعطيهم حقوقاً بما سمى حينها ” بالتمييز الايجابى ” على أساس انتمائهم العرقى بدارفور كجزء من الاتفاق مع الحركات المسلحة حينها و كان هذا المؤتمر برعاية عضو مجلس السيادة ” صديق تاور ” و أمانة مدير جامعة الجزيرة و مشاركة نخبة من أبناء دارفور و جنوب كردفان . كان الغرض الاساسى من المؤتمر إلزام الدولة حينها بامتيازات لسكان الكنابى كجزء من التمييز الايجابى ألذى فرضه قادة الحركات كحقوق أساسية لدارفور مثل اولوية مخططات التنمية ، اولوية تركيز الدولة لمخططات الرعاية الصحية لفترة غير محددة بسقف زمنى ، نسبة مقدرة فى فرص التعليم الجامعى دون التقيد بمجاميع ، اولوية فى المخططات الإسكانية ، نسبة فى الوظائف العمومية فى الدولة ، نسبة فى الوظائف العليا و المناصب السياسية و اولوية فى فرص الإعمار و التنمية لسكان دارفور . يتطلب ذلك إيقاف معظم المخططات و المشاريع فى باقى السودان ، إلا فى الجزيرة حصراً على سكان الكنابى دون غيرهم من مواطنى الجزيرة .
عمل صديق تاور على انزال هذه الخطط على ارض الواقع بمحاولته نزع أراضى زراعية مملوكة او محتكرة لعهود طوال ، بحجة الصالح العام و توزيعها كمخططات سكنية لسكان الكنابى و لم يهمل باقى الامتيازات من فرص تعليم و صحة و وظائف و غيرها .
سكان الجزيرة خليط من مختلف إثنيات و قبائل السودان كما ذكر سابقاً و لكن انتماؤهم للجزيرة ، لا يوجد فيها تسلط لقبيلة على أخرى ، تجد فى القرية الواحدة مجتمع متجانس من كل القبائل ، يعيشون على فلاحة الأرض و يقدسون التعليم و المدنية ، لم يحملوا سلاحاً بحثاً عن حقوق او امتيازات رغم إهمال الإنقاذ لهم طوال ثلاثون عاماً تماماً و قد وضح ذلك جلياً فى هذه الحرب إذ لم يجدوا حتى السلاح ألذى يدافعون به عن انفسهم . عملت الإنقاذ على تدمير البنية الأساسية لمشروع الجزيرة و ألذى كان عماد التنمية فيها ، فمشروع الجزيرة كان يستقطع ٢٪ من كل مزارع تذهب للخدمات منذ عام ١٩٢٥ ، كل المدارس و الجامعات و المعاهد المتخصصة ، المستشفيات و المراكز الصحية ، الطرق و الكبارى الداخلية و محو الأمية ، التدريب و الابتعاث للخارج و مسؤوليات الدولة تجاه المواطن كانت تمول من هذه المستقطعات ، طوال هذه الأعوام الثلاثون عاشت الجزيرة على دعم أبنائها الذين صانوا المدارس بل و فى مرات كثيرة كانوا يدفعون مرتبات المعلمين الذين تقاعست الحكومة عن دفع رواتبهم ، صانت و شيدت المراكز الصحية و المستشفيات و غالباً ما كانوا يدفعون مرتبات كوادرها العاملة ، شيدوا الطرق المسفلتة و غيرها من الخدمات بمجهودات زعامات المجتمع و مساهمات مغتربيها و مزارعيها و غيرهم من الموظفين و الفئات . لذا عاش مواطن الجزيرة فى الجزيرة و بالجزيرة و للجزيرة . سكان الكنابى لم يعودوا عمال موسميين ، بل ملاك للمحلات التجارية ، معتمدون للمحليات ، مدراء تنفيذيون ، ساسة و بروفيسورات فى الجامعات ، أطباء و صيادلة و رواد فى الأندية الرياضية و الثقافية . لم يُميزوا عن بقية مواطنى الجزيرة الذين كانوا يشترون الاراضى لإقامة مساكنهم و يدفعون قيمة العلاج عند الحوجة له ، يتقدمون للوظائف العامة و ينتظرون كغيرهم فترات طوال حتى ينالوا ما يستحقون من وظائف بحسب مؤهلاتهم العلمية او الدراسية ، يتغربون لتحسين ظروفهم و اهلهم الحياتية ، كثير من الحواشات صارت مملوكة من سكان من الكنابى لم يعترضهم احد و صاروا من قيادات العمل الوطنى فى الجزيرة .
بعد الحرب ليس كقبلها ، التمييز الايجابى صار مطلب لكل السودان ، الحرب دمرت بيوت الكل ، المعسكرات للكل ، النزوح حال الكل ، التمييز صار مطلب لكل سودانى فلينته توصيفه ، ففقد معناه و صار لعنة فلننساه و نتذكر أننا سودانيون .
اتفاقية جوبا فقدت قيمتها ، فالحركات صارت جزء من الجيش ، فلا سلاح غير سلاح قوات الشعب المسلحة و لا حركة لغير متحركات القوات المسلحة بكل مسلحيها . أراد المرتزقة القضاء على الجيش و تعميم ثقافة المليشيات فعمموا الجيش و قضوا على المليشيات و التى هى آفة البلاد و العباد ، كانت الحركات المسلحة تصارع لإضفاء الشرعية بتسميتها حركات الكفاح المسلح ، فصارت اليوم بحق حركات كفاح بسلاح الجيش و صار الجيش بحق قوات الشعب المسلحة ، قوامه شعبه من كل السودان و دُمجت كل الحركات بحكم امر واقع بغيض فى قواته و لكنه جميل فى منتهاه عظيم فى مجمله .
لذا ، لا تعودوا بنا لما يفرقنا و لا تتاجروا بمواطنينا ، فسكان الكنابى فى الجزيرة و هم مواطنون فى الجزيرة ليسوا فى دارفور او جبال النوبة كلنا عرب جزيرة و كلنا أهل العوض و كلنا ناس الكع ، كما يطلق علينا و نفتخر بكل هذه المسميات و لم نتذمر منها يوماً كما يظن الكثيرون . إذا كان هناك قتيل من كمبو وأردتم ادانة مقتله فادينوا مقتل ” المواطن فلان من كمبو فلان ” و ليس مقتل مواطن من الكنابى . فعندما قتل من قتل فى الهلالية ، أدنتم مقتل من قُتل فى الهلالية و غيرها كثر . المتعاونون فى كل أنحاء السودان ، منهم من تعاون بحكم الأمر الواقع حماية لعرضه و أهله و حياته فلا يستحق العقاب بل اللطف فى التعامل لأنه تُرك وحيداً لمصيره و هناك من فرح، دعم و نافح و اذى بتعاونه و هذا أهله يتمنون قتله اكراماً لهم و عزة لبيتهم و اسمهم فى المجتمع فلن يرحموه و هم الاقربون قبل ان تطاله يد الأبعدون .
لكن لا تميزوا بين سكان الجزيرة فكلهم مواطنوها و كلهم لها . اما سكان الكنابى فقد أتت فرصتهم لينهضوا مع بقية مواطنى الجزيرة كمواطنون فى الجزيرة دون تمييز لأنهم من دارفور او جنوب كردفان او غيرها فهم من الجزيرة و لن يعيشوا فيها كمواطنون من دارفور ، فمن أراد الانتماء لإقليم آخر غير الجزيرة و يتشرف بالانتماء له اكثر من الجزيرة فحقاً وفقه الله فى إقليمه الجديد و فى أمان الله لكننا فى الجزيرة لا نعلم لنا انتماء لغيرها .
السودان القادم ، ليس فيه مركز يدفع و أقاليم تستلم ، بل أقاليم تدفع للمركز مقابل تمثيلهم السيادي كدولة ، لذا فمبدأ ان المركز يحتكر الثروة و يوزعها على الأقاليم يجب إلا يكون هو الأساس بل العكس تماماً . كل اقليم يمتلك ارضه باطنها و ظاهرها ، يدفع نسبة من ثروته لا تتعدى ال٢٠٪ للمركز و يستأثر بالباقى و يتصرف فيه لتنمية إقليمه ، من إعمار و أمن داخلى و صحة و تعليم و غيره . تطوير إنسانه من إعداد بشرى و تدريب و تهيئة كفاءات و ترقيته . ضمان مستقبله ، من بناء و تنمية صناديق ثروات للأجيال القادمة و تجهيز البيئة المناسبة الجاذبة للاستقرار فى الإقليم .
يسبق كل ما سبق مؤتمر مصالحة مجتمعية جامع لكل اطياف المجتمع السودانى يخمد الحرائق و يطهر النفوس مما علق بها ، يحدد مسار الدولة و شكلها و وضعها بين الأمم دون جهوية او عصبية من أى نوع ، لكن يمكن بل من الضرورى ان يكون مناطقياً حتى يحدد الانتماء للإقليم فخراً و للسودان عزاً .
فقوموا إلى البناء يرحمنا و يرحمكم الله …. فقد تحددت بوصلة الحرب و الوقت يداهم و العناء فيه فناء فشدوا الهمة .